مقال جدلي حول العدالة بين الحق و الواجب
في مادة الفلسفة
السنة ثالثة ثانوي
السؤال: هل العدالة الحقة هي تلك التي يتقدم فيها الحق على الواجب، أو تلك التي يسبق فيها الواجب الحق؟
هل تجسيد العدالة مبني على تقديم الحق على الواجب أم على أسبقية الواجب على الحق؟هل من العدل أن يطالب الإنسان بحقوقه قبل أداء واجباته؟
طرح المشكلة:
إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه يعيش في وسط إجتماعي يؤثر فيه و يتأثر به و تربطه جملة من العلاقات بأفراده تشمل مختلف المجالات لذلك يخضع المجتمع لمجموعة من القوانين التي وضعتها الدولة حتى تضمن إستمرار و إستقرار المجتمع و تنظيم هذه العلاقات و بالتالي تحقيق العدالة بين أفراده و التي تعد من أسمى القيم الإنسانية التي تسعى مختلف المجتمعات الإنسانية إلى تجسيدها و تقوم العدالة على ثنائية أساسية هي الحق و الواجب ،فالحق هو كل ما يسمح به القانون للفرد و ما يخوله له من مكاسب مادية و معنوية يمكنه الدفاع عنها و المطالبة بها، أما الواجب فهو مجموعة من القواعد الملزمة على الأفراد إتباعها أو هي ما ينبغي علينا القيام به أو الإمتناع عنه ، إلا أن ما أثار جدال و إختلاف الفلاسفة و المفكرين كان حول الأساس الذي تنطلق منه العدالة حيث إنقسموا إلى تيارين متعارضين تيار يرى أن الحق أسبق من الواجب يعتبر الحق هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه العدالة و تيار آخر يرى بأن الوجاب أسبق من الحق و يعتبر الواجب الأساس الذي يجب أن تنطلق منه العدالة، إنطلاقا من هذا الجدال و التضارب الواقع بينهم فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو: هل العدالة تتأسس على أسبقية الحق على الواجب أم العكس؟ أو بمعنى آخر هل تعتقد أن تحقيق العدالة يقتضي تقديم الحقوق ثم المطالبة بالواجبات؟
محاولة حل المشكلة:
عرض الأطروحة:" الحق أسبق من الواجب":
إنطلاقا من تعريف سقراط للعدالة على أنها " إعطاء كل ذي حق حقه،" فإن هذا يجعلها ترتبط بالحقوق أكثر من ارتباطها بالواجبات فالعدالة الحقة هي التي يتقدم فيها الحق على الواجب فمن غير المعقول أن نطالب الإنسان بواجبه قبل أن نمنحه كامل حقوقه فهذا يعتبر مطية للإستغلال و الظلم فالواجب يكسب مشروعيته عندما يكون مسبوقا بالحق و يتبنى هذا الطرح كل من " فلاسفة القانون الطبيعي ، فلاسفة العقد الإجتماعي" و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية :
إن الحقوق الطبيعية ملازمة لوجود الإنسان فهي معطى طبيعي سابق عن كل واجب فالإنسان عندما يولد يتمتع بجملة من الحقوق مثل الحق في الحياة ، الرعاية،الملكية إلخ دون أن يكون عليه أي واجب فهي بحكم طبيعتها هذه سابقة لكل واجب، فهي بمثابة حاجات بيولوجية يتوقف عليها الوجود الإنساني لذلك يقول لوك "لما كان الإنسان يولد من سماته ،سمة أي إنسان أو جماعة من الناس في العالم ،فله حق طبيعي بالمحافظة على ملكه"
يقر فلاسفة القانون الطبيعي بأن العدالة تقتضي أن تتقدم فيها الحقوق على الواجبات، فالتاريخ يثبت أن الحقوق مرتبطة بالحياة أما الواجبات فهي قوانين وضعية مرتبطة بالحياة المدنية و من منطلق ان الحياة الطبيعية أسبق من الحياة المدنية و قوانينها الوضعية فإن الحق سابق لوجود الواجب لذلك يجب على هذه القوانين الوضعية أن تقر بهذه الحقوق الطبيعية و تضمن تحققها حتى تتجسد العدالة الإجتماعية يقول وولف "كلما تكلمنا عن القانون الطبيعي لا يعني مطلقا قانونا طبيعيا بل بالأحرى الحق الذي يتمتع به الإنسان بفضل هذا القانون"
و يرى فلاسفة العقد الإجتماعي أن الناس في الحياة الطبيعية كانوا يتمتعون بكل الحقوق الطبيعية مثل " الحرية ، الملكية ، الأمن ، المساواة " و سعيا منهم إلى حياة أكثر تنظيما تضمن لهم هذه الحقوق أبرموا عقدا يلتزمون بموجبه بجملة من الواجبات مقابل ضمان هذه الحقوق فالإنتقال إلى الحياة المدنية جاء بهدف الدفاع عن هذه الحقوق و ليس إقصائها يقول لوك" لما كان الإنسان قد ولد و له حق كامل في الحرية و في التمتع بلا قيود بجميع حقوق و مزايا قانون الطبيعة على قدم المساواة مع أي شخص آخر و أي عدد من الأشخاص في العالم فإن له بالطبيعة الحق لا في المحافظة على ما يخصه ...ضد إعتداء الآخرين ،أو محاولتهم العدوانية فحسب ،بل أيضا في أن يحاكم الآخرين على خرقهم هذا القانون" و يقول كذلك " الحالة الطبيعية هي حالة الحرية الكاملة للناس في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم و ممتلكاتهم ...وهي أيضا حالة المساواة "
كما أن سلطة الدولة و بقاؤها مرهون بضمان حقوق المواطنين كالصحة التعليم و الأمن قبل مطالبتهم بأي واجب فخضوع الفرد للدولة مرهون بإحترام هذه الحقوق و تجسيدها و في غيابها ينعدم الولاء و الثقة بين الفرد و الدولة فالدولة عليها قبل أن تحاسب الأفراد على التزاماتهم وواجباتهم أن تحاسب نفسها عما قدمته لهم من حقوق فمن غير المعقول أن يحرم الإنسان من أدنى حقوقه ثم يأتي من كان سببا في حرمانه منها ليطلب منه أداء وجباته .يقول هوبس " إن الملك يسوس الدولة بغرض حفظ الحقوق الطبيعية " كما يثبت الواقع أن سبب تفشي الظلم و الفساد و إنعدام العدل هو عدم مطالبة الإنسان بحقوقه لذلك يقال " الساكت عن الحق شيطان أخرس"
كما جاءت دساتير و شعارات الثورتين الفرنسية و الامريكية منددة و مدافعة عن حقوق الإنسان " الحرية ، المساواة ،الإخاء "ويظهر ذلك جليا في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية 1789" إن هدف كل جماعة سياسية هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن أن تسقط عنه هذه الحقوق الحرية و الملكية و الأمن "
و كذا الإعلان الأمريكي للحقوق 1776 " جميع الناس قد ولدوا أحرارا متساوين و مستقلين و لهم حقوق موروثة ...."
" لكل شخص الحق في حرية التفكير و الدين و الضمير " إضافة إلى هذا نجد كذلك المنظمات الدولية لحقوق الإنسان التي استمدت فلسفتها القانونية من فلاسفة القانون الطبيعي، كذلك تولي اهتماما كبيرا للحقوق على حساب الواجبات.حيث جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " .... لكل فرد حق الحياة و الحرية و سلامة الشخصية و المساواة أمام القانون " و كذلك "لكل شخص الحق في حرية التفكير و الدين و الضمير ...يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة و الحقوق و عليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء و دون أي تمييز"
و منه نستنتج أن الأساس الذي يجب أن تبنى عليه العدالة هو الحق
نقد:
رغم ما قدمه أنصار هذا الطرح في إثبات أسبقية الحقوق و ملازمتها للوجود الإنساني إلا إن أنصار هذا الطرح أقروا بالحقوق و قدسوها، وفي المقابل تجاهلوا الواجبات، وفي ذلك إخلال بتوازن المجتمع، وتفكك علاقاته، لأن ذلك يفتح الباب أمام ظهور نزوات الأنانية و مظاهر الإستغلال و التهرب من المسؤولية كما أن هذه الدساتير الدولية هي مجرد شعارات لتبرير الإستعمار و نهب ثروات الدول الضعيفة تحت غطاء حماية حقوق الإنسان و أبرز دليل على ذلك المثال الامريكي الذي إستغل هذه المنظمات و شعاراتها للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الضعيفة و إستنزاف خيراتها.
عرض نقيض الأطروحة:"الواجب أسبق من الحق"
إن الواجب هو معيار العدالة، وأساس بناء المجتمعات وتماسكها وتحضرها و هو سابق عن الحق فالعدالة الحقة لا تتجسد إلا من خلال أداء الإنسان لواجبه ثم الحصول على حقه فالمطالبة بالحق قبل أداء الواجب يعتبر ذريعة للتهرب من المسؤولية و الدولة لا يسعها تحقيق التطور و التقدم إلا من خلال إلتزام أفرادها بأداء واجباتهم لذلك فلا حق للإنسان إلا بعد أداء واجبه و يتبنى هذا الموقف كل من " كانط-أوغست كونت-دوركايم " و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية :
إن الواجب مطلب عقلي، وضرورة واقعية، تتجاوز منطق المنفعة والمصلحة والذاتية، إلى مستوى أداء الواجب لذاته، والالتزام بالقانون وما يفرضه من تضحية بالحقوق، فالجندي بدافع الواجب يقدم حياته عند الخطر فداءا لأمته، دون النظر إلى فقدانه لأهم حقوقه وهو حق الحياة. وكل هذا يعني أن الواجب أسبق من الحق، لأنه يعبر عن قيمة إرادة الإنسان ونقاء قصده، فالإنسان إذا خير بين بين أداء واجبه أو نيل حقه فإنه ملزم بأداء واجبه أولا و ذلك حسب مقتضيات الضمير الخلقي جماعي فربان السفينة في حالة غرق سفينته إذا تعامل بدافع الواجب فإنه يبقى فيها حتى يضمن نقل جميع من فيها إلى قوارب النجاة وقد يكلفه هذا حياته لكنه إذا تعامل بمبدأ الحق ينجي نفسه أولا ويترك السفينة تغرق بمن فيها ولاشك هنا أن الحالة الأولى هي الأكثر انسجاما مع مقتضيات الفعل الأخلاقي حيث يقول كانط في هذا "إن الإرادة الإنسانية الخيرة هي تلك التي تفعل وفق الواجب" .
يرى " كانط " أن الواجب هو أساس الأخلاق " الواجب من أجل الواجب " و هو أمر عقلي قطعي أي أنه خال من كل قيد أو شرط أو منفعة فالإنسان مطالب بالقيام بواجبه دون المطالبة بالمقابل " الحق"،يقول كانط " الواجب أمر مطلق جازم يتقيد به المرء لذاته " فالصانع مثلا واجب عليه أن يتقن صنعته بغض النظر عن نيله ثناء الناس كحق مقابل هذا الإتقان.يقول كانط " إذا كان يجب عليك فأنت تستطيع"و لهذا فالواجب عنده غاية في ذاته والإرادة الخيرة ليست قيمتها في نتائجها أو فيما تحرزه من مصالح وحقوق بل في ذاتها ومن هنا يستبعد كانط تماما فكرة الحق ويبقي على فكرة الواجب فقط يقول في هذا الشأن "إن الفعل الذي يتم يقتضى الواجب إنما يستمد قيمته الخلقية لا من الهدف الذي يلزم تحقيقه بل من القاعدة التي تقرر تبعا لها" و يقول كذلك " الواجب هو ضرورة إنجاز الفعل إحتراما للقانون " و نجد لفكرة الواجب من أجل الواجب أثرا في تراثنا الإسلامي و ذلك عند المتصوفة رابعة العدوية التي انتقلت من حياة المجون إلى حياة الزهد والتصوف واشتهرت بفكرة العشق الإلهي، حيث تظهر فكرة الواجب لذاته جلية، من منطلق أنها أحبت الله حبا خالصا نقيا صافيا لا تكدره الشوائب والمنافع؛ حبّا من أجل الحب ، حباّ لذاته وليس لأية غاية أخرى مثل الطمع في الجنة أو الخوف من النار. ويحكى أنها سئلت مرة " أتحبين الله وتكرهين الشيطان" فأجابت : " إن حبّي لله منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان". وكانت تقول : " اللهم إني أحبك، لأنني أحبك، إن كنت أحبك خوفا من نارك فاحرقني بها، وإن كنت أحبك طمعا في جنتك فاحرمني منها، اللهم إني أحبك لأنني أحبك "
وإلى نفس المذهب يذهب أوجست كونت إذ ينطلق من قبول فكرة الواجب، فالواجب حسبه هو القاعدة التي يعمل بمقتضاها الفرد، وتفرضها العاطفة والعقل معا، فهو يقر بضرورة الإستغناء عن الحقوق و الإبقاء على الواجبات فقط لأن الحقوق والواجبات متضمنان لبعضهما البعض فواجبات شخص هي حقوق غيره و حقوقه هي واجبات غيره و لو قام كل إنسان بواجبه فإنه سيتحصل على حقه بصفة آلية و عليه فالمطالبة بالحقوق هو فتح المجال أمام الأنانية و الصراعات الشخصية فالموظف مثلا يتحصل على حقه المتمثل في الأجرة فور أدائه عمله يقول كونت " يجب أن نحذف مصطلح الحق من القاموس و نبقي على الواجب " و يقول دوركايم " إذا قام كل بواجبه حصل الجميع على حقوقه " و يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي"الحق ليس هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب بل هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب"
و عليه نستنتج أن الواجب هو الأساس الذي يجب أن تنطلق و تؤسس عليه العدالة.
نقد :
رغم ما قدمه هذا الإتجاه من مبررات تثبت أسبقية الحق على الواجب من الناحية المنطقية و الأخلاقية و الواقعية إلا إن هذا الاتجاه الذي يبني العدالة على الواجبات والاقتصار عليها و إقصاء الحقوق تماما ، يجعل من العدالة عرجاء ويسيء إلى الحياة الاجتماعية، لأنه في قيام الفرد بواجبه دون المطالبة بحقوقه ما هو إلا ذريعة لتبرير الظلم والاستغلال و تقييد الحريات الفردية وتغييب الحقوق، وهو ظلم وجور لا يتناسب مع مبدأ العدالة وغايتها كقيمة إنسانية سامية.
التركيب :
يمكن القول أن العدالة لا تبنى على الحق وحده ولا على الواجب فتأسيس العدالة على الحق فقط يعد ذريعة للتهرب من المسؤولية و تأسيسها على الواجب وحده ماهو إلا مبرر لظلم و الإستغلال فالعدالة الحقة هي التي توازن بين الحقوق و الواجبات و تعمل على تحقيقهما معا لأن غياب أحدهما يؤدي إلى إختلال توازن العدالة و إنهيارها فكلاهما يستلزم الآخر و يفرضه فمن الإجحاف أن يطالب الفرد بحقوقه دون القيام بواجباته و من الظلم أن يقوم بواجبه ولا يحصل على حقه يقول أفلاطون " العدالة هي أداء الفرد لواجبه و إمتلاكه لما يخصه "
حل المشكلة:
و في الأخير يمكن القول أن تحقق العدالة الإجتماعية مرهون بالموازنة بين الحق و الواجب لأن أي إفراط أو تفريط في أحد الجانبين يؤدي إلى زعزعة كيان العدالة و بالتالي المجتمع برمته و الضامن الوحيد لتحقيق العدالة هو القانون لهذا يقال " القانون رديف العدالة " و يقول هوبس " إن المعيار الوحيد للعدالة هو القانون ذاته " لذلك ينبغي تجاوز مأزق أسبقية أحدهما عن الآخر و العمل على تحقيق روح العدالة التي تشترط تداخلهما و الجمع بينهما فهما يشكلان وجهان لعملة واحدة و هي العدالة.