مقالة جدلية حول:
هل أصل الرياضيات العقل أم الحواس؟
للسنة الثالثة ثانوي
جميع الشعب
إعداد الأستاذ صوالحي
الأسئلة المشابهة:
هل المفاهيم الرياضية في جملتها نابعة من العقل أم التجربة؟
هل المفاهيم الرياضية صادرة عن العقل أم صادرة عن التجربة؟
هل العقل هو المصدر الوحيد للرياضيات؟
هل الرياضيات ذات أصول عقلية خالصة؟ أم أن للحواس و التجربة دور فيها؟
هل الرياضيات فطرية أم مكتسبة؟
هل المفاهيم الرياضية مكتسبة من الواقع الخارجي؟ أم أنها أفكار أودعها الله في عقولنا منذ البداية؟
هل المفاهيم الرياضية قبلية أم بعدية؟
المقدمة:
تمهيد وظيفي: تعتبر الرياضيات من أقدم العلوم التي عرفها الإنسان، و هي ذلك العلم الكمي الذي يهتم بدراسة المقادير الكمية القابلة للقياس بنوعيها كم متصل و كم منفصل........
إبراز العناد الفلسفي: و لقد اختلف الفلاسفة والمفكرون وعلماء الرياضيات حول موضوع أصل و نشأة المفاهيم الرياضية، مما ولد مرجعية فكرية تعتقد أن الرياضيات ذات أصول عقلية خالصة، و على النقيض من ذلك يؤكد آخرون أنها مكتسبة من الواقع الخارجي..
صياغة السؤال: لذلك وجب علينا التساؤل: هل المفاهيم الرياضية فطرية أم أنها مكتسبة من الواقع الخارجي؟ و بعبارة أخرى: هل العقل هو المصدر الوحيد لجميع المفاهيم الرياضية؟
العرض: محاولة حل المشكلة
الموقف الأول: الاتجاه العقلي المثالي. "مصدر الرياضيات هو العقل".
المسلمة: "العقل قوة و ملكة فطرية ركبت فيه أفكار و مبادئ سابقة عن التجربة".
الأدلة والحجج:
*العقل هو المصدر الوحيد للمفاهيم الرياضية.
*المفاهيم الرياضية في أصلها الأول صادرة عن العقل.
*المفاهيم الرياضية هي جملة من المفاهيم المجردة.
*المفاهيم الرياضية أنشأها الذهن واستنبطها من مبادئه دون الحاجة إلى الرجوع إلى الواقع.
*المفاهيم الرياضية معاني فطرية يولد الإنسان مزودا بها.
*يرجع القول بفطرية المعاني الرياضية في العقل إلى الفكرة العامة القائلة بفطرية مبادئ المعرفة.
*العقل في تصور الفلاسفة العقليين المثاليين وعاء يحوي أفكارا فطرية هي أصل المعرفة.
*العقل بطبيعته يتوفر على مبادئ وأفكار فطرية سابقة للتجربة الحسية، وتتميز بالبداهة والوضوح.
*كل ما يصدر عن العقل من أحكام و قضايا ومفاهيم يعتبر ضروريا و كليا و مطلقا.
*العلم الإنساني عموما، لا يأتي إلى الإنسان من الخارج إلى العقل، بل إنه ينبع من العقل ذاته.
*إذا تصفحنا تلك المعرفة الرياضية وجدناها تتصف بمميزات منها المطلقية و الضرورة والكلية، و هي مميزات خالصة موجودة في المعرفة الرياضية، وتتعذر في غيرها من العلوم التي تنسب إلى التجربة.
فالمكان الهندسي والخط المستقيم ومفاهيم العدد واللانهائي والأكبر والأصغر وغيرها، كلها معان رياضية عقلية مجردة، لا تدل على أنها نشأت عن طريق الملاحظة الحسية، ولا أنها نسخة من الواقع التجريبي، إنها صدرت من العقل وحده.
*من الذين دافعوا عن هذا الطرح الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" الذي أعطى السبق للعقل الذي –بحسبه- كان يحيا في عالم المثل، و كان على علم بسائر الحقائق، و منها المعاني الرياضية الأولية التي هي أزلية وثابتة مثل المستقيم و الدائرة...، لكنه عند مفارقته لهذا العالم نسي أفكاره، فكان عليه أن يتذكرها، و أن يدركها بالذهن وحده.
*يقول "أفلاطون" في هذا الشأن: "المعرفة تذكر و الجهل نسيان".
* "أفلاطون" أعطى الأسبقية للعقل باعتباره الوحيد الذي يستطيع أن يتذكر تلك المعطيات الرياضية الأولية الموجودة في عالم المثل، و هي أزلية وثابتة كالمستقيم و الدائرة و غيرها.
*يؤكد ذلك أيضا الفيلسوف و الرياضي الفرنسي "ديكارت" حينما اعتبر المعاني الرياضية من أعداد وأشكال، أفكارا فطرية أودعها الله فينا منذ البداية، مثل فكرة الله، وهذه الأفكار تتميز بالبساطة والبداهة واليقين.
*وما دام العقل حسب "ديكارت": "أعدل قسمة بين الناس" فإن الناس جميعا يشتركون في العمليات العقلية حيث يقيمون عليها استنتاجاتهم.
* يعتقد كذلك "كانط" الفيلسوف الألماني أن مصدر الرياضيات هو العقل، وأن المكان والزمان مفهومان رياضيان وهما صورتان عقليتان سابقتان عن كل تجربة. فقد ميز كانط بين نوعين من المكان: المكان الحسي الواقعي و هو محدود و متناه و له أبعاد (طول وعرض و ارتفاع)، والمكان العقلي الرياضي الهندسي و هو ليس محدود و لا متناه و ليست له أبعاد.
* يرى أيضا كل من القديس "أوغسطين" و "مالبرانش" أن المفاهيم الرياضية هي أنوار إلهية يقذفها الله في عقل الإنسان.
النقد:
تعرض أنصار الاتجاه العقلي لعدة انتقادات أبرزها:
* هذه الحجج مجرد افتراضات إذ يمكن إنكار وجود عالم المثل حسب ما ادعاه أفلاطون.
* هذا الاتجاه فيه تركيز بشكل كبير على العقل وتقليل من دور الحواس والتجربة الواقعية.
* كما أن القول بوجود أفكار فطرية أمر يكذبه الواقع، فلو كانت هذه المفاهيم فطرية عند الإنسان لكانت واحدة عند جميع الناس.
*وهل القضايا الرياضية هي بالفعل مستقلة عن المعطيات الحسية؟
*لو كانت الرياضيات عقلية خالصة فكيف نفسر الاتجاه التطبيقي للهندسة والحساب لدى شعوب الحضارات الشرقية القديمة؟
* لو كانت تلك المبادئ و الأفكار الرياضية الفطرية موجودة فعلا، لوجدناها عند الطفل الصغير بطابعها المجرد.
* لو كانت المفاهيم الرياضية فطرية لأتى بها الإنسان وعرفها دفعة واحدة.
الموقف الثاني: الاتجاه الحسي التجريبي. "مصدر الرياضيات هي الحواس والتجربة".
المسلمة: العقل يولد صفحة بيضاء و لا وجود لأية أفكار فطرية.
الأدلة والحجج:
*المفاهيم الرياضية لم ترد على الإنسان من أي جهة أخرى، غير العالم الواقعي الحسي أو التجريبي، فهو المصدر الحقيقي لها.
*يرى الفلاسفة الحسيين والتجريبيين أمثال "جون لوك"، "دفيد هيوم" و "جون ستيوارت مل" أن التجربة هي المصدر اليقيني لكل أفكارنا ومعارفنا سواء رياضية أو غيرها.
*التجربة هي التي تخط سطورها على العقل الذي هو شبيه بالصفحة البيضاء.
*ليس ثمة في الذهن معارف عقلية قبلية مستقلة عما تمده إياه الخبرة.
*المفاهيم الرياضية مثل جميع معارفنا لم ترد على الإنسان من أي جهة أخرى، غير العالم الواقعي الحسي أو التجريبي، فهو المصدر اليقيني للمعرفة وبالتالي لجميع الأفكار والمبادئ.
*كل معرفة عقلية ما هي في الحقيقة إلا صدى لإدراكاتنا الحسية عن هذا الواقع.
*نفى "جون لوك" وجود أية أفكار فطرية سابقة عن التجربة قائلا: "العقل يولد صفحة بيضاء والتجربة تخط (تكتب) عليه ما تشاء"، ويردف قائلا:"لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة".
*من الأدلة التي اعتمدها أنصار هذا الاتجاه أن الطفل في مقتبل عمره يدرك العدد مثلا كصفة للأشياء.
*كما أن الرجل البدائي لا يفصل العدد عن المعدود، وأكثر من ذلك فقد استعان عبر التاريخ عند العد، بالحصى و بالعيدان و بأصابع اليدين و الرجلين و غيرها.
*اعتمدوا كذلك على حجة أخرى، مفادها أن تاريخ العلوم يدلنا أيضا على أن الرياضيات قبل أن تصبح علما عقليا، قطعت مرحلة كلها تجريبية.
*يشهد على ذلك أن العلوم الرياضية المادية المشخصة تطورت قبل غيرها، مثل الهندسة كعلم قائم بذاته سبقت الجبر و الحساب لأنها أقرب إلى التجربة (مسح الأراضي الزراعية).
*يؤكد ذلك "دفيد هيوم" بقوله: "إن القضايا الرياضية التي هي من الأفكار المركبة ليست سوى مدركات حسية بسيطة هي عبارة عن تعميمات مصدرها التجربة".
*يرى كذلك "دفيد هيوم": "أنه لا شيء من الأفكار يستطيع أن يحقق لنفسه ظهورا في العقل ما لم تكن قد سبقته و مهدت له الطريق انطباعات حسية مقابلة له".
*ما يؤكد هذا الاتجاه أن علم النفس يثبت أن الطفل لا يدرك الأعداد إلا بلواحقها المادية، لأن الإنسان يدرك الملموس قبل المجرد.
*علم نفس الطفل يؤكد على أن الطفل لا يدرك العدد منفصلا عن المعدود أي الأشياء (العالم الحسي).
*إضافة إلى ذلك فإن الأشكال الهندسية هي انعكاس لما يوجد في الطبيعة، فالدائرة مستوحاة من الشمس و القمر، المثلث من الجبل....يذلك يقول "ج س مل": "إن النقاط والخطوط و الدوائر التي في أذهاننا هي نسخ للنقاط و الخطوط المعروفة في التجربة الحسية".
النقد:
*لا يمكن أن ننكر دور التجربة في تأسيس المعرفة بصفة عامة، و منها المعاني الرياضية.
*لكن هناك الكثير من المفاهيم الرياضية لا أصل لها في العالم الخارجي و هي مفاهيم عقلية خالصة، فالنقطة مثلا كمفهوم هندسي لا وجود لها في الواقع الحسي و هي مستقلة عنه قائمة في العقل. كذلك الصفر والجذر ...
*العقل هو الذي يربط بين مختلف هذه التجارب والمعطيات الحسية، فكيف يكون أصلها التجربة خاصة و أن العقل أصبح الآن يتصرف في هذه المفاهيم كما يشاء (ظهور الأنساق الرياضية المعاصرة).
*إذا نظرنا إلى الكثير من المفاهيم الرياضية نجدها مجردة و بعيدة عن الواقع التجريبي.
* لو كانت الحواس هي المصدر الوحيد للرياضيات لشاركتنا فيها الحيوانات.
* كما أن الحواس مخادعة و مضللة وتمدنا بمعارف جزئية ناقصة وأحكامها ظنية متغيرة.
* كما أن الحسيين لا يفرقون و لا يميزون بين العدد والمعدود، وجعلوا العدد صفة للمعدود. فقولنا خمسة أقلام فنحن نرى الأقلام و لا نرى العدد خمسة فهو مفهوم عقلي مجرد.
* لو كانت المفاهيم الرياضية مكتسبة من الواقع الخارجي فأين هو الصفر والجذر .....وغيرها من المفاهيم الرياضية المجردة.
التركيب:
نتيجة للانتقادات الموجهة لكلا الاتجاهين يمكننا التوفيق بينهما بالقول أن العقل و التجربة مرتبطان و متلازمان، فلا وجود لعالم مثالي للمعاني الرياضية في غياب العالم الخارجي، و لا وجود للأشياء الملموسة في غياب الوعي الإنساني، و بمعزل عن ملكة تجريدية، لذلك فالمنطق يلزمنا القول بالمصدر الثنائي للمفاهيم الرياضية. يقول العالم السويسري "غونزيث": "في كل بناء تجريدي يوجد راسب حدسي يستحيل محوه و إزالته، ليس هناك معرفة تجريبية خالصة و لا معرفة عقلية خالصة بل كل ما هناك، أن أحد الجانبين العقلي و التجريبي قد يطغى على الآخر دون أن يلغيه تماما".
الخاتمة: حل المشكلة.
ختاما ومما سبق نستنتج أن الرياضيات كعلم متميز بموضوعه و منهجه مرتبط بالعقل، لكن ذلك لا يعني عدم استنادها إلى معطيات حسية.
ملاحظة: المقال الفلسفي لا يكون على شكل نقاط منفصلة عن بعضها و إنما وجب الربط بين تلك الأفكار و دعمها بأقوال و أمثلة.