مقال جدلي حول
علاقة السياسة بالأخلاق
في مادة الفلسفة
للسنة الثالثة ثانوي
نص السؤال : هل الممارسة السياسية تشترط مراعاة القيم الأخلاقية ؟
مقدمة :( طرح المشكلة)
لقد وصف الفلاسفة منذ القدم الإنسان على أنه كائن مدني بطبعه، فحياته لا تقوم ولا تستقيم إلا في ظل سلطة تحكمه ،حتى ان أرسطو إعتبر الدولة من الأمور الطبيعية التي يلجأ إليها الأفراد بهدف تنظيم حياتهم فالدولة هي تنظيم سياسي يسعى إلى تسيير شؤون الرعية لكن ما أثار جدال الفلاسفة و تضارب آرائهم هو الكيفية التي تتعامل بها الدولة فهناك من رأى بأنه يجب على الدولة مراعاة القيم الأخلاقية أثناء المعاملات السياسية و هناك من رأى بضرورة إبعاد الأخلاق عن السياسة
هذا الجدال الواقع بينهم دفعنا إلى طرح الإشكال التالي:هل من الضروري مراعاة المطالب الأخلاقية في الممارسة السياسية؟أم أن الممارسة السياسية تقتضي تجاوز كل إعتبار أخلاقي؟ هل يجب الفصل بين السياسة و الأخلاق؟
العرض:( محاولة حل المشكلة)
عرض منطق الأطروحة: "يجب مراعاة المطالب الأخلاقية في الممارسة السياسية"
إن الدولة لابد لها من التعامل وفق المبادئ و القيم الأخلاقية لأن غاية الدولة هي المحافظة على الإنسان و الرقي به و تحقيق التعاون و التكافل بين الأفراد لذلك يجب على السياسة أن تقوم على مبادئ و أسس أخلاقية و يتبنى هذا الموقف كل من "راسل ، كانط ، إبن خلدون" و حججهم في ذلك مايلي:
إن الممارسة السياسية يجب تقييدها وفق مبادئ أخلاقية لأن كل محاولة للفصل بينهما ستؤدي إلى حلول الإستبداد و الإستغلال محل الديمقراطية والأمن فالدولة ضرورة إنسانية هدفها الحفاظ على حرية الإنسان و أمنه و سموه و إستقراره و هذه الغايات لا تتحقق إلا بفضل القيم الأخلاقية التي توجه المعاملات الإنسانية و تؤدي إلى التعاون الدولي بين الشعوب المختلفة فمصير الإنسانية متعلق بمراعاة القيم الأخلاقية في الممارسة السياسية و إلا تحولت العلاقات بين البشر إلى "قانون الغاب " يقول راسل" الشيء الذي يحرر البشر هو التعاون ، وأول خطوة فيه إنما تتم في قلوب الأفراد"
إن الدولة التي تسير شؤون رعيتها و علاقاتها مع غيرها وفق أسس لا أخلاقية سيكون مصيرها الإنهيار و الزوال و التاريخ مليء بالشواهد التي تثبت ذلك فأغلب الأنظمة التي كانت قائمة على القوة و العنف و الإستغلال و الظلم كان مصيرها الإنهيار يقول العلامة إبن خلدون "إن إتباع الشهوات و الإبتعاد عن الفضائل هو سبب سقوط الدولة"
أن غاية السياسة هي تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وحفظ حقوق الإنسان وهي غايات أخلاقية حيث يرى أرسطو أن علم الأخلاق علم عملي هدفه تنظيم الحياة الإنسانية بتحديد ما يجب فعله وما يجب تركه وهذا لا يتحقق إلا بمساندة القائمين على زمام الحكم باعتبار أن كثيرا من الناس لا يتجنبون الشر إلا خوفا من العقاب يقول آرسطو" إن الدولة أنشأت لكي تمكننا أن نعيش" ونجد في الفكر الإسلامي ما يؤكد ضرورة الربط بين السياسة والأخلاق و ذلك في قول الماوردي " إن السياسة العادلة هي التي تجمع بين الأقوال والأفعال وتدفع الحاكم الى عدم المعاقبة إلا على ذنب , وعلى أن العقاب لا ينبغي أن يؤدي إلى إغفال محاسن الناس والعفو لا يؤدي إلى إسقاط مساوي الناس" وفي العصر الحديث يؤكد كانط على هذا الموقف من خلال كتابه ( مشروع السلام دائم ) الذي ينبذ فيه الاستبداد ودعا إلى نظام حكم جمهوري مؤكدا أن غاية الدولة هي خدمة الفرد أي أنها تجعل الإنسان غاية في ذاته لا وسيلة لتحقيق المشاريع السياسية حيث يقول " النزاهة أفضل سياسة إنها الشرط المطلق لأية سياسة"
مناقشة:
لقد بالغ أنصار هذه الأطروحة في اعتبار أن الأخلاق ضرورية في الممارسة السياسية لأن الحياة الواقعية التي يعيشها الإنسان وتعيشها الدول لا تقوم على مبادئ ثابتة بل ممتلئة بالحالات الخاصة التي لا تجعل الإنسان يرقى إلى هذه المرتبة من الكمال التي يعامل فيها أخيه الإنسان على انه غاية في ذاته.
عرض نقيض الأطروحة:
" يجب إبعاد القيم الأخلاقية في الممارسة السياسية"
إن الغاية من الممارسة السياسية هي المحافظة على الدولة و كينونتها و هذا يقتضي عدم مراعاة القيم و المبادئ الأخلاقية و يتبنى هذا الموقف كل من " ميكيافيلي، هوبس ،جوليات فروند، نتشه" و حججهم في ذلك مايلي:
يرى ميكيافيلي أن تدهور العمل السياسي و انهيار الدولة يرجع الى تدخل الأخلاق والدين , فالعمل السياسي عنده لا صلة له بالأخلاق بل يجب أن نحكم على الفعل السياسي من خلال النتائج فيكون مفيدا أو غير مفيد , لذلك يجب استخدام كل الوسائل أخلاقية كانت أوغير أخلاقية للوصول الى نتائج مفيدة فعلى الحاكم أن يكون مخادعا و أن يعمل وفق مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" يقول ميكيافيلي في كتابه الأمير"إنني أعتقد أن كل إنسان سيوافقني الرأي،إنه من خير الأمير أن يستغل من الصفات ما يشاء في سبيل رفعته غير ناضرا إلى قيمة أخلاقية أو دينية ، فهناك من الفضائل ما يؤدي إلى إنهيار حكمه كما هناك من اللافضائل ما يؤدي إلى إزدهاره"
ففي الممارسة السياسية يجب على الحاكم أن يتظاهر بالقيم الأخلاقية اذا اقتضت الضرورة السياسية ذلك وعليه أن يستخدم كل السبل والوسائل في سبيل السلطة والسيطرة على الوضع وإيجاد التنظيم المناسب يقول نتشه " إخواني أضع فوقكم هذه اللائحة كونوا قساة "و يقول كذلك " الأخلاق من صنع الضعفاء" فالحاكم يجب أن يجمع بين قوة الأسد ومكر الثعلب لأن السياسة المبنية على الأخلاق ستنهار بسرعة يقول ميكيافيلي" إن فساد السياسة يعود إلى تدخل الدين و الأخلاق في الحياة السياسية" و يقول جوليات فروند في كتابه ماهية السياسة " إن الأخلاق والسياسة لا سبيل الى تماثلهما قط فالأولى تهدف الى كمال الفرد والثانية تستجيب لضرورة من ضرورات المجتمع وتعتمد على الصراع والحيلة والقوة "
و يرى توماس هوبس أن الإنسان شرير بطبعه لا يستجيب إلا لمنطق القوة و المكر فلا يمكن أن نحد من أنانيته و طبيعته الشريرة إلا بواسطة خضوعه لسلطة سياسية قوية تستعمل كل أنواع القوة و العنف مقابل أن تضمن له الأمن و الإستقرار يقول هوبس" إن على كل إنسان أن يجهد نفسه حتى تجنح إلى السلم طالما بقي الأمل في الحصول عليه قائما، أما إذا إستحال الحصول عليه فيصبح من حقه البحث عن كل وسائل النجدة و كل مزايا الحرب و إستعمالها"
مناقشة: رغم أن هناك مواقف سياسية تقتضي عدم مراعاة القيم الأخلاقية إلا أن هذا الفصل المطلق بين السياسة و الأخلاق فيه دعوة الى انتشار الظلم والاستغلال و مراعاة الحاكم لمصلحته الشخصية على حساب مصلحة العامة مما يؤدي في النهاية الى الثورة ضد السلطة الحاكمة وما يتبع ذلك من مآسي الحرب يقول أحد المفكرين " إن القوة التي تدوس تحت أقدامها كل حق لا بد أن تتقوض في النهاية "
تركيب:
يمكن القول أنه يجب مراعاة القيم الأخلاقية أثناء الممارسات السياسية لأن إستقراء التاريخ يثبت أن الدول التي فصلت بين الأخلاق و السياسة و إستعملت منطق القوة و العنف كان مآلها الفشل و الإنهيار ومن هذا المنطلق وجب الربط بين السياسة و الأخلاق و لنا في النجاح و الإزدهار الذي حققته الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه و سلم خير دليل على ضرورة التكامل بين السياسة و الأخلاق يقول الله تعالى {{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}} و يقول محمد عبده "إن الخليفة عند المسلمين مطاع مادام على نهج الكتاب و السنة و المسلمون له بالمرصاد، فإذا إنصرف عن النهج نبهوه إليه ، و إذا إعوج قوموه بالنصيحة".
خاتمة :( حل المشكلة)
و في الختام يمكن القول أن السياسة و الأخلاق رغم تباينهما إلا أنهما متكاملان لأن الإنسان كائن سياسي و أخلاقي في نفس الوقت لذلك يجب مراعاة المطالب الأخلاقية أثناء الممارسة السياسية سواء داخل الدولة أو بين الدول لأن ذلك يؤدي إلى انتشار الأمن والقضاء على الخلافات والحروب وتحقيق إنسانية الإنسان .
و يمكن أن نستخلص العلاقة بين السياسة و الأخلاق من خلال قول أبو حامد الغزالي " الدين و السلطان توأمان، و الدين أساس و السلطان حارس فمن لا أساس له فمهدوم و من لا حارس له فضائع"